الثلاثاء، ٦ يناير ٢٠٠٩

إهتزازات



-->
و ظللت اصرخ و الدماء من حولي في كل مكان ، وذلك الألم الحارق يمزق احشائي لا يريد ان ينتهي، و الضوء الساطع يرهقني و لا يرحم عيني ، و يزيدني ذعرا شعور الاختناق، هكذا انتهي بي الحال او لعله بدء ، و لكن اذكر بداية قبل ذلك ، اذكر كيف بدء كل شئ، كنت في الماء كعادتي مستمتعا بالهدوء و الظلام ، مسترخيا حيث انا ، متلذذا بوحدتي ، كنت قد انتهيت لتوي من الطعام و تهيأت للنوم قليلا عندما شعرت بهزة عنيفة ، كانت هزة سريعة ، خاطفة ، حتي تساءلت إن كنت اتوهم ، انتبهت من غفلتي و اخذت ابحث بعيني فيما حولي فلم اجد سوي الظلام المحبب المألوف و لم اسمع إلا صوت الهدوء ، وازداد شكي في حدوث الامر و اقتناعي انني كنت احلم ، ثم ما ان عدت لاسترخائي حتي عادت الاهتزازات بأعنف مما كانت عليه ، لم استطع ان انكر الامر هذه المرة و اجتاح الرعب قلبي، ، لست ممن يرهبون الزلازل بشكل فوق المعتاد او هكذا اظن نفسي ، و لكن ما ادخل الرعب الي قلبي لم يكن الاهتزاز ، بل ذلك المشهد الذي جعلني ادعو الله من كل قلبي ان استيقظ فأجد ان الامر مجرد كابوس فظيع ، لقد كانت السماء من فوقي تنخفض مع كل اهتزاز ، بل كنت اشعر ان العالم من حولي يتضائل و يكان ينطبق علي و من حولي، هل يمكن ان يحدث ذلك ، هل ينهار عالمي و تقتلني انقاضه ؟
ازدادت ضربات قلبي سرعة و خاصة مع عودة الهدوء ، لقد اصبحت املك _و لو مؤقتا_ رفاهية ان ينتابني الذعر قبل عودة الاهتزازات ، و ها هو الهدوء الذي كان مصدر اماني يصبح اشبه بالنذير ، الهدوء الذي يسبق العاصفة ، و ها انا طافيا اشحذ كل حواسي علي احدد مصدر الخطر القادم فلا يباغتني كما سبق ، و ها هو الاهتزاز الثالث و ها هو الماء من حولي يتناقص و اجدني في دوامة صغيرة و السماء تنطبق من جديد ، يا إله اجعله حلما !!!!!
و ازدادت الاهتزازات ، سرعة و قوة ، و كسر الصمت المميت صرخات مميتة ، لا اعرف مصدرها و لا اري صاحبها ، صرخات رفيعة حادة ، تأتيني من الاعماق !!!!!!!!!!!!!!
اخذت اتلفت من حولي كالمجنون لا اري سوي الظلام و تحطم الصرخات اعصابي و تزلزل الاهتزازات كياني ، نظرت الي العماق فإذا بضوء يأتي من هناك ، ربما في هذا الخلاص ، كهذا فكرت و لكن الصرخات ايضا تأتي من هناك ، يا إله ماذا افعل ؟
استجمعت شجاعتي وقررت ان اخاطر ، اذا كانت حياتي قد شارفت علي الانتهاء فليكن ذلك و انا اعرف سبب موتي فهذا افضل من الموت ذعرا ، و هكذا غصت في الاعماق بحثا عن مصدر الضوء ، فإذا بيد بيضاء عملاقة تأتي من هناك و تحكم قبضتها حول رأسي حاولت ان اتراجع او اهرب و لكن دون جدوي ، صرخت فلم اسمع صرخاتي و جائتني الصرخات الرفيعة من اسفل لتزيدني هلعا و بدأت اليد تجذبني لأسفل اكثر و اكثر حتي صار الضوء الساطع من حولي في كل مكان و انتهي كل شيء ، لا اهتزازات و لا صرخات و الافجع و الاهم لا سماء و لا مياه و ها هو النصل الحاد يقترب مني و يقطع و إذا بي اصرخ و الدماء من حولي في كل مكان و ذلك الألم الحارق يمزق احشائي لا يريد ان ينتهي ، و الضوء الساطع يرهقني و لا يرحم عيني ، و يزيدني ذعرا شعور الاختناق ، ثم حملتني اليد البيضاء و سمعت صوت لا بد انه صوت صاحبها يقول : مبروك جالك ولد

الاثنين، ٥ يناير ٢٠٠٩

تفاح عم فرحات


جالسا جلسته الأبدية، في ركن حارتنا، بجلبابه الأزرق، وابتسامته المحيرة،
فلا هو يرى ما يبهج ولا رأينا دليل على انه يعي، مررت به ككل يوم، نفس التوجس الذي أشعر به تجاهه منذ صغري، أشعر بعينه تنفذ لداخلي، ترى ما أداري، تعي ما أنكر، أسرعت ككل يوم لكني عدت هذه المرة ، عدت من أجل بعض التفاح.

هو عم فرحات، رجل قعيد ضرير، يبيع التفاح علي ناصية حارتنا، لا يعرف احد متى يذهب ولا يدرك أحد متى يأتي، يراه الشيوخ عند الخروج لصلاة الفجر ، و تراه الغواني عند العودة في آخر الليل، طالما كان هناك ، رآه الأجداد و يراه الأحفاد، شيء في وجهه، يخبرك أنه يعرف الكثير، تماما كما يخبرك شعره الفاحم أن الصبغة ضمن ذلك الكثير.

يمر الناس به، يبتاعون من تفاحه، يكيلون لأنفسهم و يضعون النقود في علبة من صفيح جواره، فلا تجده يحرك ساكنا، كنت اسخر منه في صغري وأعجب لما يصفه أهل الحارة ب(الرجل البركة ) على حد تعبيرهم،كان شعوري تجاهه منذ الصغر هو عدم الارتياح، فلا يوم اشتريت تفاحه ولا طاوعت أمي علي تناوله في وقت مرض أو صحة، كانت أمي ترى في تفاحه شفاء كل داء و تؤمن تمام الأيمان بقدراته العلاجية و الوقائية، سألتها يوما، ماذا يحدث لو حاول أحدهم أن يسرق منه بعض التفاح؟ فأخذت تحكي لي عن لعنات أصابت كل من حاول يوما أن يسخر منه أو يستغل عجزه ،رأت في عيني تمرد واضح، أوصتني ألا ألحق بركبهم وقالت : لم يقدر احد يوما على فرحات.

و كبرت في عالم من المفردات الفرحاتية ، فكل مصاب لعنه فرحات ، و كل بركة حلت بسببه، كنت إداري صختي رحمة بجزع أمي ، فلا أبوح به إلا لعزيز،ابن الجيران الذي صار فيما بعد زوجي.كان عزيز يقبل تمردي مداريا اعتراضه، فقد كان مثلهم ، يؤمن بقوة فرحات. كنت اشعر أن الرجل يعرف كل ذلك، و رغم عدم إيماني بأي من كلامهم إلا إنني وجدت نفسي أسرع الخطوات كلما مررت به، و اشعر بعينه الخاوية تخترقني و تملأ عقلي بفراغها و تنقل لي سخط صاحبها و وعيد غير منطوق.

شننت معركة ضده في كل بيت، معركة الخائف لا المستهين،ظاهرها معركة ابنة الحارة الطبيبة المتعلمة ضد الجهل، كان غموضه يملأني رعب، و تبجيل الناس له يعظم من خوفي منه، ربما أردت أن أبادره قبل أن تصيبني لعنته، أو ظننت أن قوته في إيمان الناس به فإذا زعزعته ، أمنت شره ،كنت أتندر بهم إذا حذروني من بطشه، و في داخلي لا أمللك إلا أن اتسائل كيف سيكون عقابه.

و مرض ابني الوحيد و شاع في الحارة ، زينب ازاها فرحات ، نصحوني بالذهاب إليه، و شراء بعض التفاح الذي طالما أبيت أن آكله، تجاهلت الجميع وذهبت بابني إلي أطباء المعمورة دون جدوى، لم اسمع منهم سوى ما أكده لي علمي و مراجعي : لم نرى حالة كحالته من قبل، حاول البعض و منهم زوجي إطعام الصغير تفاح دون علمي، اخبرني الجيران أنه كلما هموا أن يبتاعوا منه له ، لم يجدوا عنده تفاح، و كلما أرادوا أن يأخذوا له مما في بيوتهم ، اختفى تفاحهم ، و صارت أمي تولول في كل مجلس : فرحات منع تفاحه عن ابنك يا زينب، يا ويلك يا زينب

مررت به في ذلك اليوم وهو كما هو،تحدثني نفسي أن أذعن من أجل ابني و ينكر علي كبريائي خضوع عقلي لمنطق الجموع،أسرعت هاربة من أفكاري، آثرت أن أنصر الطبيبة على الأم ، لكن الأم انتصرت و عدت بعد إسراعي مبتعدة، عندما رأيته لأول مرة مادا يده و بها تفاحة ، عدت للشيخ العجوز ، منكسة المنطق، خاضعة العلم ، مددت يدي لآخذ التفاحة، فإذا بها تمر في فضاء، سمعت صوته يتردد في عقلي: فات وقت الرجوع . جرئت على ما لم يجرؤ عليه غيري، هممت أن المسه، فإذا به شبح غير ملموس ، وقبل أن تتلاشى صورته من أمامي ، رأيت وجهه يبتسم في تشفي ،ذاهبا خلف صاحبه، آخذا معه آخر أمل لأبني في الشفاء ، أطلقت صرخة هرولت في أثر الشبح ، باحثة بين الأركان على بقية من تفاح عم فرحات.